الأمومة في حياة النبي ووصاياه
ونظرة على دورها فِي البناء والتوجيه
محمد أحمد العزب
وحين
نودع القرآن لنسير - بعد . . فِي ظلاله المديد . . متلفتين فِي منادح
المجتمع الإسلامي العريض فِي محاولة الوقوف على مكانة ( الأم ) فِي مثل
هذا المجتمع . . لا نستطيع إلا أن نقف لحظات فِي خشوع وإطراق ، أمام
الأمومة الشاهقة العظيمة التي أنجبت ( محمدًا ) والتي استطاعت رغم
انعتاقها الوامض من رحلة الزمن ، أن تغرس فيه كل حوافز التصعيد والسموق .
. وأن تهبه فِي لحظات زمنية خاطفة ، كل ما يمكن أن تهبه الأمومة الحالية
لوليدها من عطف . . ومن حب . . ومن روعة حنان .
ولسنا ندري بعد - ماذا
كان يمكن أن يكون . . لو أن محمدًا لم يذق فِي حياته - ولو لفترة زمنية
مضغوطة - الحنان فِي صدر أمه الدافئ ؟ أم أن السماء كانت معه على موعد ،
حين حرمته هذا الصدر النابض الحنون ، حتى تذكى فِي أعماقه
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 290)
المضيئة قبس الحب لهذه الإنسانة ( الأم ) فيخلدها فِي كل طور من أطوار
الزمن . . وفي كل جيل من أجيال التاريخ ؟ إن المتصفح لتاريخ النبوة . .
وما كان عليه الرسول فِي هذه المجالات لا يستطيع أمام هذا الطوفان الزاخر
من اهتماماته الرائعة بالأمومة إلا أن يرجع بآصرة النسب بينهما إلى وشائج
أقوى من وشائج اللحم والدم . . لأن محمدًا لم يرتفع بالحديث عن كائن بشري
كما ارتفع به عن الأمومة . . وكأنما كان يمنح فيه من معين لا ينضب ، أو
يقتبس فيه من جذوة لا تخبو مع الأيام !
وفي ظلال من رحلة تلمسنا فيها
جذور هذه العاطفة ، وأغوار هذا الوجدان ، لا نستطيع أن ننفصل عن حتمية
العودة إلى طفولة محمد ، لنرى كيف كانت أمه آمنة بنت وهب إلى جواره ؟ هل
كانت نبع عطف ، وغدير إيمان ، فغمرت وليدها البازغ فِي بهاء ذلك العطف ،
وصفاء هذا الإيمان ، حتى استحال كيانه كله ، إلى نبضات خافقة بحب الأمومة
، وخلجات هامسة بما لها على الإنسانية من فضل تتضاءل حياله الأفضال ؟ أم
ماذا ؟
ها نحن مع مطالع بزوغ هذا الفجر . . مع محمد جنينا فِي بطن أمه
. . مع إحساساتها الطافرة نحو هذا الجنين الذي ما زال يغالب التيار فِي
ظلمة المجهول . مع حديثها الوامض عن هذه المرحلة من مراحل حملها بالنبي .
. قالت لحليمة السعدية ذات يوم : والله ما للشيطان عليه يا حليمة من سبيل
وإن لابني هذا لشأنًا . . أفلا أخبرك خبره . . ؟
فهتفت حليمة : أجل . . قولي يا آمنة . .
فانهمرت أم النبي تقول : والله ما رأيت من حمل قط كان أخف من حمله ولا أيسر منه . .
إذًا فالصداقة معقودة بين محمد وأمه حتى قبل أن يعانق محمد أضواء الوجود . .
وحين ولدته يا حليمة وقع وإنه لواضع يديه على الأرض ، رافع رأسه إلى السماء . . أرأيت ؟
إن
أم النبي كانت ترى فِي الطفل صورة الرسول . . إن إحساسها العارم بتفوق
الوليد الجديد قد أثرى إحساسها النابض بالحب . . وأذكى مشاعرها الأمومية
البيضاء . . إلا أننا نجرم فِي جانب الحقيقة حينما نحصر
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 291)
الحديث عن أم النبي فِي هذا الإطار . . إطار المشاعر الحلوة ، والعواطف
الدافئة ، والأحاسيس المنهمرة الثرة . . فما أكثر ما تنساب كل هذه الطاقات
الهائلة بين الطفل الصاعد وأمه الرائمة . .
فلنثب بالحديث إلى عالم آخر فنتساءل : هل كان لأم النبي دور فِي تربيته وصقله ، وإعداده لما ينتظره من دور على مسرح الوجود ؟
الذي
أعرفه أن آمنة أم النبي كانت مثلاً رائعًا للأمومة الحية النابضة . .
تعهدت الطفل النبي منذ غضارته ، فحدثته عن أبيه وعن روعة حياته . . كيف
كان أملاً مرجى . . وأسطورة فذة للرجولة ، والمجد ، والجمال . . حدثته عن
قصة الفداء المذهلة ، وكيف أن عيون قريش كلها كانت تقطر دمًا . . وهي تنظر
من بعيد إلى شبح الموت القادم فِي ضوء النهار ليطوي تحت جناحيه الداكنين
شباب عبد الله . . وكيف أن هذه العيون الدامعة احتشدت من بعد بالفرحة ،
وتألقت بأغاريد الخلاص . .
وما زالت به هكذا حتى السادسة ، تصب فِي
أذنيه ملاحم القوة ، وأناشيد البطولة وذكريات الفداء . . حتى استوت للطفل
الواعد شخصية تنبئ عن غد رجولي باسل . . وفريد . . وحين شارف هذه السن ،
ورأت فيه بوادر النضوج والاكتمال . . أصرت - لأن الدور هكذا يحتم عليها -
أن تزور به قبر أبيه . . وتألقت دمعات الفرح على وجنتي الصبي أنه سيرى
القبر الذي يرقد فيه الحنان الأعظم . . سيرى قبر أبيه الذي لم يره . .
والذي طالما حدثته عن أيامه ولياليه أمه الساهرة على كلاءته . . سيرى
أخواله هناك ، فِي يثرب ستتوشج أواصر جديدة بينه وبين طفولات كثيرة . .
فليذهب إذًا . . وذهبا . .
وأخذت الأم وليدها لتريه البيت الذي مرض فيه
أبوه . . والقبر الذي دفن فيه . وهي بين الفينة والفينة تختلس نظرات نافذة
إلى طفلها الساهم ، لعلها تريد أن تقرأ ما يجيش فِي داخله من خيالات . .
وما تركته تلك الرحلة فِي أعماقه من انطباعات كل ذلك والفتى ساهم . . واجم
. . كأنه يعايش بنظراته الذهلى من ثوى خلف هذا الركام . . أو كأنه يطالع
فِي صمت روعة المعجزة التي فجرت من هذا الحفير الدارس المتواضع تاريخًا
سيحول التاريخ .
وعادت بمحمد أمه . . وانطلقت القافلة الصغيرة تضرب فِي
بطون الأودية وشعاب الجبال . . ولكن الأم ما تزال صامتة . . كأنها خرساء .
. إنها تعانق الأفق البعيد بنظرة ولهى . . بينما يذبل الربيع فِي وجهها
الغارب شعاعًا من وراء شعاع ! ! وحين تخاذلت ذراعاها عن صدر الفتى المبهور
. . تلفت إليها فيما يشبه الروع . . فضمته إليها فِي حنان راعش راعب مقرور
. ثم انطلقت فِي خفوت واهن تتمتم : ( كل حي
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 292)
ميت . . وكل جديد بال . . وكل كبير يفنى . . وأنا ميتة . . وذكري باق . .
فقد تركت خيرًا . . وولدت طهرًا ) ثم طواها بعد ذلك صمت أبدي رهيب . . !
وحفرت
هذه اللحظات الحزينة المتألمة فِي أعماق النبي صورة لا تبهت ، وانطباعًا
شاخصًا لا يريم . . فعاش حياته كلها فِي إطار من هذه اللحظات الغائمة ،
ترتجف أعماقه كلما خايلته الذكرى ، أو تخالجه ذهول الموقف المحموم . .
وما
زال محمد يردد فِي كلماته صدى ما عاش فِي ضميره من عذابات . . فحين يرى
دار بني عدي بن النجار بعد الهجرة ينساب فِي ألم يقول : هاهنا نزلت بي أمي
. . وفي هذه الدار قبر أبي عبد الله . . وحين يمر بالأبواء فِي عمرة
الحديبية يقول : إن الله أذن لمحمد فِي زيارة قبر أمه فأتاه فأصلحه ، وبكى
عنده ، وبكى المسلمون لبكائه ، فقيل له فِي ذلك فقال : ( أدركتني رحمتها
فبكيت . . ) .
ويروي عبد الله بن مسعود : خرج النبي - صلى الله عليه
وسلم - يومًا وخرجنا معه ، حتى انتهينا إلى المقابر ، فأمرنا فجلسنا ، ثم
تخطى القبور حتى انتهى إلى قبر منها ، فجلس إليه فناجاه طويلاً ، ثم ارتفع
صوته ينتحب باكيًا ! فبكينا لبكاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أن
رسول الله أقبل إلينا فتلقاه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال : ما
الذي أبكاك يا رسول الله فقد أبكانا وأفزعنا ؟ فأخذ بيد عمر ، ثم أومأ
إلينا فأتيناه ، فقال : ( أفزعكم بكائي ؟ قلنا : نعم يا رسول الله . .
فقال ذلك مرتين أو ثلاثًا . . ثم قال : إن القبر الذي رأيتموني أناجيه قبر
أمي آمنة بنت وهب . . وإني استأذنت ربي فِي زيارتها فأذن لي . . ! .
وكما
كان محمد يقدس الأمومة فِي أمه . . فكذلك كان فِي موقفه من كل الأمومات
لقد انعكس حبه الغامر لأمه الراحلة . . على كل أم فِي هذا الوجود . . فدأب
على توعية الملايين بما للأمومة من حرمة ، وما لمكانتها من جلال . . يتألق
ذلك فِي تكريمه الموصول لمرضعته ( ثويبة ) مولاة أبي لهب . . فكان يصلها
وهو بمكة . . فلما هاجر إلى المدينة كان يبعث إليها بصلة وكسوة . . إلى أن
ماتت ، فلما دخل مكة ظافرًا لم تنسه نشوة النصر أن يسأل ما فعل ابنها
مسروح ؟
وكذلك كان تكريمه لحاضنته ( أم أيمن ) التي رافقته وأمه إلى يثرب . . وكان إذا رآها قال : هي أمي . . بعد أمي . . .
ولما
ماتت فاطمة . . أم علي بن أبي طالب . . ألبسها قميصه واضطجع معها في قبرها
فقال له أصحابه : ما رأيناك صنعت بأحد ما صنعت بها ؟ فقال : إنه لم يكن
أحد بعد أبي طالب أبر بي منها . . إني إنما ألبستها قميصي لتكسى حلل الجنة
. . واضطجعت معها فِي قبرها ليهون عليها . . .
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 293)
وكان حين يرى ( حليمة ) المرضعة . . يتلقاها هاتفًا : " أمي أمي " . .
ويفرش لها رداءه ويمس ثدييها بيديه . كأنه يتذكر فيها غضارة العمر ،
وبواكير الحياة . .
وحين تجيش فِي صدره الذكرى يجمجم : لو أدركت والدي
أو أحدهما وأنا فِي صلاة العشاء وقد قرأت فاتحة الكتاب . . تنادي يا محمد
. . لأجبتها : لبيك . . ) .
سأله صحابي : من أحق الناس بحسن صحابتي يا
رسول الله ؟ قال : " أمك " . . قال : ثم من ؟ قال : " أمك " . . قال : ثم
من ؟ قال : " أمك " . . قال : ثم من ؟ قال : " أبوك
وجاءه رجل يقول :
يا رسول الله ، إن لي أمًّا عجوزًا أحملها على عاتقي كل يوم وأطوف بها حول
البيت . أفأكون بذلك وفيتها حقها ؟ فيقول له النبي : " لا . . ولا بزفرة
واحدة . . إنها حملتك وهي ترجو حياتك . . وأنت حملتها . . وتنتظر رحيلها !
.
وحين يستأذنه رجل فِي الجهاد يسأله النبي : " أحية أمك ؟ " فيقول
الرجل : نعم . . فيقول له : " اذهب فجاهد فِي برها " . . فيعاود الرجل
الإلحاح فيقول له النبي : " ويحك . . الزم رجلها فثم الجنة .
وتروي لنا
أسماء بنت أبي بكر فتقول : قدمت علي أمي وهي مشركة فِي عهد رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - فاستفتيته قلت : قدمت على أمي وهي راغبة . أفأصلها ؟
قال : نعم . . صلي أمك يا أسماء
ويحذر النبي من تعريض الأمومة للون من
ألوان الهوان . . أو المهاترة . . أو السباب . . فيقول : إن من أكبر
الكبائر أن يلعن الرجل والديه " قيل : وهل يلعن الرجل والديه يا رسول الله
؟ قال : " نعم . . يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه ! " .
وهكذا
نجد أن الأمومة قد استوعبت فِي حديث النبي كل هذه الأبعاد المترامية ، مما
يؤكد لنا أن لها فِي أعماقه . . وتعاليمه جميعًا . . مكانًا يشبه الواحة
الخضراء . . تتموج فيه الظلال المرهفة . . وتتناغى على حوافيها الزهور
الوادعة . . وتأتلق فِي كل أرجائها روح الربيع الأخضر الجذلان .
وهكذا
يسلمنا النبي مفاتيح البر بهذه الأمومة البرة . . حتى لا نستحيل فِي
حياتنا الصاخبة إلى قطيع ذاهل منكود . . لا تربطه إلى أعماق حياته الواثبة
وشيجة من عاطفة ولا سبب من أسباب البنوة البيضاء . . ولكن . . إذا كانت
هذه مضامين الهتافات العالية الجريئة التي أطلقها محمد رسول الله فِي
طريقه إلى دعم مكانة الأمومة ، وتكريم دورها الخطير . . فما هي رسالة
الأمومة فِي الحياة ؟
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 294)
هل هي مجرد
وعاء لحمى يستوعب بذور الخلق ليقذفها بعد آماد محدودة إلى عالم الوجود ؟
أم هي مخلوق عاجز مشلول استقر كل هذا الحنان الصيب من قلب الرسول فجاش
حيًّا نابضًا فِي كلماته ؟ أم تراها مصدر إشعاع روحي خطير إلى جوار كونها
مصدر إشعاع وجودي أصيل ؟
الذي أعرفه . . أن الأمومة لو كانت مجرد وعاء
لحمي ، أو مجرد قوة مشلولة تستأهل العطف . . لكانت فِي موازين الحياة أخف
وزنًا مما هي الآن . . فما أكثر ما نشاهد من حشرات . . أو دواب . . أهلتها
طبيعتها المؤنثة لكي تصير أمًّا تهب الوجود خلقًا جديدًا .
إن الأمومة
قد تبوأت هذه القمة لأن لها دورًا . . إنها صاحبة دور من أخطر أدوار
البناء والتوجيه فِي حياة المجتمع . . فعلى قدر ما تبذل . . وتبني . .
وتسدد . . نجل فيها مصدر العطاء وسبب الوجود . . وبمقدار ما تتخلى عن هذا
الدور أو تنتكس . . ننغض إليها الرأس احتقارًا ونشيج عنها بالأعين
ازورارًا .
ألست معي فِي أن أمًا كأسماء بنت أبي بكر . . تعدل ملايين
الأمهات ممن يقبعن داخل جدران بيوتهن . . يغزلن فِي قطن خائر رخو . . أو
يجدفن فِي أمواج متلاطمة من دماء الأعراض والحرمات ؟ إن هذه أم . . وتلك
أم . . بحتمية التقائهما فِي إطار الإنجاب . . ولكن ما أوسع البون بينهما
فِي مجالات الموازنة أو المقارنة ، أو المضاهاة . . إن أسماء بنت أبي بكر
. . أم عرفت حقيقة دورها فِي الحياة . . فدفعت بابنها الباسل عبد الله بن
الزبير على خشبة الصلب ، غير عابئة بثكل يقترب . . أو خطب يدمدم ، أو
إعسار أسى ينوح ! ! وحين تلمح بوادر التردد تزحف على جبين عبد الله من
خلال كلماته : يا أمي . . إني خائف أن يمثلوا بي بعد القتل ! تنتفض فِي
أمومة فدائية بطلة ، تعتصر جراحها بيديها وهي تقول : امض على بركة الله يا
بني . . فإن الشاة لا يضرها بعد الذبح أن تسلخ ، فتحضأ بكلماتها نار
الإقدام فِي أعماق الفارس المصلوب فيمضي إلى القتل . . كأنه ماض إلى موعد
بسام .
وحين تطول بابنها ضراوة الصلب . . لا تقعي . . ولا تتهالك . .
وإنما تمضي على طريقها الباسل بخطوات فيها تحد . . وفيها كبرياء . . ولا
تزيد حين تنظر إليه على أن تغلف كلماتها بالسخرية ممن صلبوه فتقول : ها .
. قولوا للحجاج . . أما آن لهذا الفارس أن يترجل ؟ !
لبيك من كل
أعماقنا يا أسماء . . إننا أبناؤك وإن عز البديل عن عبد الله . . إننا
أبناء كلماتك الشجاعة الفذة . . أبناء أمومتك الفدائية البطلة . . التي
تتحرق إلى أمثالها شوقًا أعماق الوجود ! !
ومن هنا . . ومن نقطة
انطلاقنا هذه . . نستطيع أن نلمح فِي إضاءة كاشفة نظرة الإسلام إلى
الأمومة . . إنه يكرم فِي الأمومة قلبها النابض بالحب . . وعقلها الخافق
بالمعرفة . . وجسدها المتأبي على نداءات الحضيض . . إنه يكرم فيها الأم .
. والمدرسة . . والكيان المستعلي فِي كبرياء ذاتي نبيل .
وحين تتحقق للأمومة هذه الأقانيم . . أعني قلبها النابض . . وعقلها الخافق . . وجسدها الكبريائي . .
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 295)
فإنها لا محالة مؤدية دورها على أكمل وجه . . وأبدع الأنساق .
إنها
ستنشر من حولها ظلال الحب الوارفة فتنشأ الطفولة فِي حصنها أليفة متعادلة
لا تلوي بها عقد النقص . . ولا يعصف بكيانها شعور لاهب بالحرمان .
إنها ستضيء عقول أبنائها بمشاعل النور والمعرفة . فلا يتخبطون فِي أغوار الجهالة ولا يزحفون على بطونهم فِي سفوح الفراغ .
إنها ستلقنهم - فِي أسلوب عملي - قضية نظافة الجسد . . فلا يدمرونه فِي وهدة القاع ، ولا يمزقونه على مذبح اشتهاء جنسي رخيص .
وهل
تستطيع الأمومة أن تؤدي هذا الدور . . أو تنهض بهذه الأعباء . . ما لم يكن
لها من دينها . . وبيئتها . . ومجتمعها . . وأنماط السلوك فِي عالمها . .
حافز . . وموجه . . ومنير ؟
الذي أعرفه . . أن الإسلام كدين . . وكطراز
حياة . . عني فِي تعاطف جم بهذه الأبعاد المضيئة فِي حياة الأمومة . . إنه
علمها كيف تحب أبناءها . . براعيم الحياة . . فِي قصد معتدل . . وفي غير
إسراف . . إن الحب المسرف قاتل من غير شك . . تمامًا كالدواء المسرف ، إنه
يقتل الأحياء . . ومن هنا فقد حرص الإسلام على تعميق هذه الفكرة . .
وإثراء هذا الاتجاه فِي وجدان الأمهات . . حتى لا ينقلب الحب إلى لون حاطم
من ألوان التدليل الوبيل .
لقد أباح أن تضرب الأم طفلها إذا انحرف . . واستعصى انحرافه على التوجيه الهادئ . . واللوم الخفيف .
فقســا ليزدجــروا . . ومــن يــك حازمــا فليقس أحيانًــــا علــــى مــــن يرحــــم
ثم
ماذا تستطيع الأمومة الجاهلة أن تفعله ؟ هل تستطيع أن تربي جيلاً من
الأجيال ظامئًا إلى المعرفة . . متشوقًا إلى آفاق الحرية والتطلع . .
والنور . . ؟ إن فاقد الشيء لا يستطيع أن يهبه . . ومن هنا فقد أطلق
الإسلام للمرأة جناحيها تحلق بهما فِي فضاء المعرفة اللانهائي . . حتى
تؤهلها طبيعتها المتعلمة الواعية لتؤدي دورها كأم . . وكأم مثقفة . .
ناضجة . . مكتملة النضوج تزرع فِي أعماق أطفالها روح النزوع الواثب الفاهم
العملاق .
ثم . . من هي الأم التي فقدت جسدها كأنثى . . وعرضته سلعة
رخيصة فِي سوق النخاسات ؟ هل تستطيع مثل هذه الأم أن تنبت جيلاً يؤمن
بعزته . . وبوطنيته . . وبأنه منحدر من أصلاب مجتمع نظيف ؟ أبدًا . .
(الجزء رقم : 3، الصفحة رقم: 296)
فالتي فقدت نفسها لا تستطيع أن تعثر على أنفس الغير . . والتي تهون فِي
مخادع الليل المريضة الصفراء . . لا يمكن أن تضيء كفها شعلة ولا أن تدفئ
أنفاسها رعشة . . ولا أن ترعرع أحضانها طفلاً يريد أن يعانق على الطهر
أحضان الحياة !
ومن هنا كان الإسلام ثورة عاتية . . وعارمة . . على كل
أنماط الأمومات الرخيصة التي تبيع الهوى . . وتنجر فِي بضاعة الأعراض . .
إنه يؤمن بالنظافة الجسدية إيمانه بالنظافة الروحية . . حتى تستحيل الأم -
فِي مفهوم أطفالها إلى مثل أعلى وإلى نموذج كريم . . فيشبون على خلق الطهر
. . وتستقيم خطواتهم على طريق النبالة .
وهكذا . . نجد أن الأمومة هي
المدرسة الأولى التي تتلقف أحضانها البراعم الخضراء . . فتشكلها على نحو
أو آخر . . ولذلك . . فإن عناية الإسلام بها من هذه الزاوية . . هي فِي
الواقع عناية بحقيقة الدور الذي تؤديه . . مما يؤكد لنا أن الأمومة رسالة
قبل أن تكون وعاء لحميًّا . . ودور قبل أن تكون كيانًا مستوجب الرحمة . .
وحركة بناءة قبل أن تكون شيئًا يفيض بمجرد الحنان .
ولكني فِي غمار الحديث عن الأمومة فِي الإسلام كدت أنسى أن البحث ليس محصورًا فِي هذا الصدد . . وليس عائشًا فحسب فِي هذا الإطار .
إن الحديث عن الطفولة يشكل جانبًا من جوانب هذا البحث . . فلأترك الأمومة الآن - على كره مني - لأتحدث عن الطفولة فِي الإسلام .
مجلة البحوث الإسلامية
تصفح
برقم المجلد > العدد الثالث - الإصدار : من رجب إلى ذو الحجة لسنة
1397هـ > البحوث > أبحاث أخرى > الأمومة في حياة النبي ووصاياه
ونظرة على دورها في البناء والتوجيه
السبت يناير 19, 2019 6:18 pm من طرف الحسن
» الانتخابات الرئاسية افريل 2019
السبت يناير 19, 2019 6:10 pm من طرف الحسن
» دروس رائعة في الفيزياء والكمياء جاهزة للتحميل
الخميس أبريل 09, 2015 2:18 pm من طرف LAMHAFER
» وثائق التسجيل في الجامعة
الثلاثاء يوليو 17, 2012 6:56 pm من طرف العاشق الولهان
» كشف نفاط شهادة التعليم الثانوي(BAC)
الأربعاء يونيو 27, 2012 10:21 am من طرف العاشق الولهان
» من اجمل ما قيل
الثلاثاء يونيو 12, 2012 9:01 am من طرف العاشق الولهان
» لهجات وطني
الإثنين يونيو 11, 2012 8:33 pm من طرف العاشق الولهان
» INFINITY4TRADING
الإثنين مايو 07, 2012 10:29 am من طرف remoo adel
» لعبة رووووووعة
السبت مايو 05, 2012 8:23 pm من طرف العاشق الولهان
» نزياري اسماعيل سعدي
الثلاثاء مارس 06, 2012 10:42 am من طرف نزياري